• ×

قائمة

Rss قاريء

من الألم إلى الأمل: قصة حصوات الكلى بين الماضي القاتم والحاضر المشرق

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
في صباحٍ هادئ من مستشفى الملك فهد العام بجدة، أكتب هذه السطور وأنا على سرير التنويم، أسترجع تاريخًا طويلًا من الصراع بين الإنسان وأحد أكثر الأمراض ألمًا وقسوةً: حصوات الكلى.
ذلك المرض الذي كان يومًا يُعدّ حكمًا بالإعدام البطيء، وأصبح اليوم يُعالج بالموجات والليزر خلال ساعات، بفضل عقول الأطباء وجهود الباحثين.

العصور القديمة: حين كان الألم نهاية الطريق

منذ فجر التاريخ، رافقت حصوات الكلى الإنسان كظلّه.
في مومياء مصرية تعود إلى نحو 4800 سنة قبل الميلاد، وُجدت أول حصاة بولية موثقة في التاريخ — دليل على أن المرض قديم قِدم الإنسان نفسه.
وفي العصور الإغريقية والرومانية، كتب أبقراط عن آلام الخاصرة، لكنه نصح الأطباء قائلاً:

لن أجرح أولئك الذين يعانون من الحصى، بل أترك ذلك لمن هو مختص.”


كانت الجراحة في تلك العصور مخيفة وقاتلة؛ تُجرى بدون تعقيم ولا تخدير، ويخرج المريض منها بين الحياة والموت.
كثيرون ماتوا من التسمم الدموي أو فشل الكلى نتيجة انسداد البول، وكان الألم شديدًا لدرجة يفقد فيها المريض وعيه.
أما من نجا فغالبًا كان يعيش بإحدى كليتيه فقط — كما حدث لجدتي سارة سفر الحارثي.

ستة عقود مضت: جراحة الحياة والموت

قبل نحو ستين عامًا، كانت جدتي سارة سفر الحارثي تعيش مأساة الحصوات المتكررة.
لم تكن هناك مناظير ولا موجات صادمة، فاضطر الأطباء إلى استئصال الكلية كاملة بحصواتها لإنقاذ حياتها.
كانت تلك العملية في زمن الجراحة المفتوحة الكبيرة، بخيوط جراحية سميكة مقارنة بالخيوط الدقيقة اليوم التي تُشبه في نعومتها شعرة الرأس.

ورغم فقدانها كليةً كاملة، عاشت بعدها 60 عامًا بكُلية واحدة فقط حتى تجاوزت المئة من عمرها — رمزًا لصبر جيلٍ واجه المرض بالعزيمة والإيمان.

الوراثة: معركة العائلة المستمرة

المرض لم يتوقف عند جدتي.
فقد عانى منه والدي ووالدتي، واثنان من أخوالي، وجميع إخوتي — لتصبح الحصوات جزءًا من إرثٍ وراثي متكرر في العائلة.
فالاستعداد الجيني يلعب دورًا كبيرًا في تكوين الحصى، إذ تميل بعض الأجسام لترسيب الكالسيوم أو حمض اليوريك أكثر من غيرها، حتى مع شرب كميات كافية من الماء.

وقد أفاد الأستاذ سامي موسى الزهراني، رئيس قسم الأشعة في مستشفى الملك فهد العام بجدة، بأن:

مشكلات الحصوات الكلوية في ازدياد مستمر خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة، بسبب تغير أنماط الحياة والتغذية ونقص شرب الماء.”


وتشير إحصاءات وزارة الصحة السعودية إلى أن ما بين 10 إلى 12٪ من البالغين في المملكة سيُصابون بحصوات الكلى في مرحلة ما من حياتهم، وأن النسبة في ازدياد خاصة بين الرجال.

رحلة الطب: من المقص إلى الموجة

تاريخ علاج الحصوات هو قصة تطور الطب نفسه.
في كل عقد، كان هناك اكتشاف يُنقذ أرواحًا ويخفف ألمًا:

الحقبة الحدث الطبي الأبرز

عشرينيات القرن 19 الطبيب الفرنسي جان سيفيال (Jean Civiale) ابتكر أول أداة لتفتيت الحصى داخل المثانة دون جراحة مفتوحة.
1874م ظهور تقنية litholapaxy لشفط الحصى المكسّرة دون جراحة.
1929م أول استخدام للمنظار لعلاج الحصوات البولية (ureteroscopy).
1976م ابتكار جراحة الوصول عبر الجلد PCNL على يد فرنستروم ويوهانسون في السويد.
1980م أول استخدام لجهاز Dornier HM1 في ألمانيا لعلاج الحصوات بموجات الصدمة الخارجية ESWL.
1990s–الآن انتشار المناظير الصلبة والمرنة المزودة بليزر لتفتيت الحصى بدقة عالية داخل الكلية والحالب دون أي جرح ظاهر.


اليوم، تجاوزت نسب النجاح 95٪ في المراكز المتخصصة، مقارنة بأقل من 40٪ قبل نصف قرن فقط.

التحديات الراهنة

ورغم هذا التقدم المذهل، تبقى بعض التحديات قائمة:

ارتفاع تكلفة العلاجات المتقدمة مثل المناظير المرنة وأجهزة الموجات الصادمة.

قلة توفر الأجهزة في بعض المستشفيات الحكومية بسبب الضغط الكبير.

ازدحام المواعيد وتأخر التدخل في أقسام المسالك البولية نتيجة كثافة الحالات.

حدة الألم ومضاعفاته مثل التهابات الكلى أو انسداد الحالب، التي تجعل المريض في معاناة نفسية وجسدية شديدة.

هذه العقبات لا تقلل من كفاءة الفرق الطبية، لكنها تُبرز الحاجة إلى توسيع الطاقة الاستيعابية وتسهيل وصول المرضى للعلاج المبكر.

نصائح للوقاية

للوقاية من تكرار الحصوات — خاصة لمن لديهم تاريخ عائلي — ينصح الأطباء بما يلي:

1. شرب 2.5 إلى 3 لترات من الماء يوميًا للحفاظ على سيولة البول.


2. تقليل الملح والبروتين الحيواني والمشروبات الغازية.


3. تناول الفواكه الحمضية مثل الليمون والبرتقال لاحتوائها على سترات تقلل ترسب الكالسيوم.


4. المتابعة الدورية لقياسات البول والأملاح، خاصة لمن لديهم استعداد وراثي.


5. استخدام الأدوية المانعة لتكوّن الحصى مثل Citrate أو Allopurinol حسب توجيه الطبيب.

اليوم في مستشفى الملك فهد العام

الآن، وأنا متنوم في مستشفى الملك فهد العام بجدة تحت رعاية الاستشاري د. أيمن السليماني وفريق جراحة المسالك البولية،
أشعر بالامتنان العميق للتطور الطبي الذي وصلنا إليه.
فما كان قبل عقود يُعدّ طريقًا إلى الموت، أصبح اليوم طريقًا إلى الشفاء،
وما كان يُستأصل صار يُعالج،
وما كان يُجرى تحت صراخ الألم أصبح يتم تحت تخدير دقيق بلا دم ولا خوف.

من الألم إلى الأمل

قصة حصوات الكلى ليست مجرد وجع في الخاصرة،
بل قصة انتصار الإنسان على ضعفه،
رحلة من مشرط الجراح القديم إلى نبضة الموجة الحديثة،
من المريض الذي يُستأصل عضوه إلى المريض الذي يخرج بعد ساعات مبتسمًا.

جدتي سارة سفر الحارثي عاشت 60 عام بكُلية واحدة رحمها الله تعالى،
وأنا اليوم أعيش لحظة الألم والرجاء بكليتين وطبّ متقدم،
بين ماضٍ كان الحصى فيه نذير ألمٍ وموت،
وحاضرٍ أصبح فيه شاهدًا على انتصار العلم والإرادة.

بواسطة : بقلم: د. مشاري بن سليم
 0  0  15

التعليقات ( 0 )

جديد المقالات

بواسطة : بقلم / د . حسن بن سلطان بصفر

حينما نتابع بكل فخر واعتزاز ما يحققه سمو ولي...


بواسطة : د. حامد كرهيلا حمد

في إطار مسار التحالف الإسلامي العسكري لمكافحة...


القوالب التكميلية للمقالات